فصل: فَصْل في إثبات وجود الجن وذكر بعض أحوالهم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.فَصْل في إثبات وجود الجن وذكر بعض أحوالهم:

اعلم وَفَّقَنَا الله وَإِيَّاكَ وَجَمِيع الْمُسْلِمِين لما يحبه ويرضاه وجعلنا وَإِيَّاكَ وإياهم من المصدقين لله فيما أخبروا به وحيث أَنَّهُ قَدْ كثر فِي زمننا المنكرون للجن وغالبهم يستندون فِي إنكارهم بأن طَرِيق معرفة وجودهم هِيَ النظر أَوْ السمَعَ أَوْ اللمس وأنهم لم يروا جنَّا ولم يسمعوهم ولم يمسوهم.
ولكن عدم النظر أَوْ السمَعَ أَوْ اللمس أَوْ عدم وصول أحد الحواس الخمس إلى وجود الجن لا يقوم دليلاً على عدم وجودهم لا نقلاً ولا عقلاً أما العقل فإنه يجوز وجود كائن حي غير مرئي بالعين بدون واسطة المجهر المكتشف أخيرًا فَإِنَّ المكروب كائن حي خلقه الله وَهُوَ كثير فِي طبقات الجو ولا يمكن رؤيته بالعين.
ومن لم يقر ويعتقَدْ مَا غاب عَنْ سمعه ولمسه لزمه إنكار الروح والآلام والعقل والجوع والظماء لأنها لَيْسَتْ مرئية ولا مسموعة ولا ملموسة ولا مذوقة وأما النقل فكثير فمن الأدلة قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}، وَقَالَ الله تَعَالَى آمرًا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخبر قومه أن الجن استمعوا لقراءة الْقُرْآن فآمنوا به وصدقوا لما قَالَ وتلا وانقادوا لَهُ كما فِي قوله تَعَالَى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً} الآيات.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ}.
وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ}. وَهَذَا من حكمة الله ولطفه بعباده البشر فلو كشف لَنَا عَنْ حقيقتهم وسلط نظرنا المحدود على ذواتهم لما أمكن وَاللهُ أَعْلَمُ أن يعيش الإِنْسَان معهم وَقَالَ تَعَالَى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانٌ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ}.
وَقَالَ: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ}. وَقَالَ فِي من سخر لسُلَيْمَانٌ: {وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ} الآيات، وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}. قَالَ ابن عَبَّاس: «آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونًا يخنق». رَوَاهُ ابْن أَبِي حَاتِم، قَالَ: وروي عَنْ عوف بن مالك وسعيد بن جبير والسدي والربيع بن أَنَس وقتادة ومقاتل بن حيان نَحْوَ ذَلِكَ إلى غير ذَلِكَ من الآيات.
اللَّهُمَّ انهج بنا مناهج المفلحين وألبسنا خلع الإِيمَان واليقين، وخصنا منك بالتَّوْفِيق المبين، وَوَفِّقْنَا لقول الْحَقّ واتباعه وخلصنا مِنَ الْبَاطِلِ وابتداعه، وكن لَنَا مؤيدًا ولا تجعل لفاجر عَلَيْنَا يدًا واجعل لَنَا عيشًا رغدًا ولا تشمت بنا عدوًا ولا حاسدًا، وارزقنا عِلْمًا نافعًا وعملاً متقبلاً وفهمًا ذكيًا وطبعًا صفيًا وشفاءً من كل داء. واغفر لنا ولوالديْنا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آل وصحبه أجمعين.
فَصْل:
أما السنة فورد عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «إن عفريتًا من الجن تفلت عليَّ البارحة ليقطع علي الصَّلاة فأمكنني الله منه فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حَتَّى تصبحوا وتنظروا إليه فذكرت قول أخي سُلَيْمَانٌ: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي}».
ورد أن صفية زوج النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم جاءت تزوره وَهُوَ معتكف فقام معها مودعًا حَتَّى بلغت باب المسجد فرآه رجلان من الأنصار فسلما عَلَيْهِ فَقَالَ: «على رسلكما إِنَّمَا هِيَ صفية بنت حيي». فقالا: سبحان الله يَا رَسُول اللهِ وكبر عَلَيْهِمَا فَقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان يبلغ من الإِنْسَان مبلغ الدم وإني خشيت أن يقذف فِي قلوبكما شَيئًا».
وَهَذَا صريح واضح فِي أن الشيطان يخترق الجسم البشري ويسري فيه كما يسري الدم ومَعَ خفائه فقَدْ التزم الشيطان لعنه الله فِي عداوته سبعة أمور: أربعة فِي قوله تَعَالَى: {وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ} وثلاثة مَنْهَا فِي قوله تَعَالَى: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}.
وَهَذَا الإلتزام يبين أَنَّهُ عدو متظاهر بالعداوة ولِذَلِكَ فصل الله عداوته باشتمالها على ثلاثة أشياء: السُّوء وَهُوَ متنازل جميع المعاصي من الْقَلْب والْجَوَارِح، والفحشاء وهي مَا عظم جرمه وذنبه كالكبائر التي بلغت الغاية فِي الفحش وَذَلِكَ كالزنا واللواط. والقول على الله بلا علم فِي أسمائه وصفاته وشرعه.
وروى مُسْلِم أن فتى من الأنصار قتل حية فِي بيته فمَاتَ فِي الحال فَقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «إن فِي الْمَدِينَة جنًا قَدْ أسلموا فَإِذَا رأيتم مِنْهُمْ شَيْئًا فآذنوه ثلاثة أيام فَإِنَّ بدا لكم بعد ذَلِكَ فاقتلوه فإنما هُوَ شيطان».
وهكَذَا تكررت الروايات الصحيحة أن الجن كَانُوا بالْمَدِينَة وَقَدْ أسلم بَعْضهُمْ وروى مُسْلِم فِي صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةِ رضي اله عَنْهُ أن رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا من مولود يولد إِلا نخسه الشيطان إِلا ابن مريم وأمه».
وروى مُسْلِم قول النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «مَا منكم من أحد إِلا وكل الله به قرينه من الجن»، فرأى الصحابة أن قوله صلى الله عليه وسلم عام فَقَالُوا يَا رَسُول اللهِ وَإِيَّاكَ، أي حَتَّى أَنْتَ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «وإياي لكن الله قَدْ أعانني عَلَيْهِ فأسلم فلا يأمرني إِلا بالْخَيْر».
وروى الْبُخَارِيّ فِي صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةِ قَالَ: وكلني رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان فأتاني أت فجعل يحثو من الطعام فأخفته وقُلْتُ: لأرفعَنْكَ إلى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: دعني فإني محتاج ولي عيال وبي حَاجَة شديدة.
قَالَ: فخليت عَنْهُ. فأصبحت فَقَالَ رَسُول اللهِ: «يَا أَبَا هريرة مَا فَعَلَ أسيرك البارحة؟» قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُول اللهِ شكا حَاجَة شديدة وعيالاً فرحمته فخليت سبيله، قَالَ: «أما أَنَّهُ كذبك وسيعود». فرصدته فَجَاءَ يحثو من الطعام فعل ذَلِكَ ثلاث ليال كُلّ ذَلِكَ والرَّسُول صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «أما أَنَّهُ قَدْ كذبك وسيعود».
فَلَمَّا كَانَ فِي الثالثة قُلْتُ: لأرفعَنْكَ إلى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهَذَا آخر ثلاث مرات تزعم إِنَّكَ لا تعود، فَقَالَ: دعني أُعْلَمُك كلمَاتٍ ينفعك الله بها. فَقُلْتُ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: إِذَا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: {اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} حَتَّى ختم الآيَة فإنه لن يزال عَلَيْكَ من الله حافظ ولا يقربك شيطان حَتَّى تصبح. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أما أَنَّهُ صدقك وَهُوَ كذوب. تعلم من تخاطب مُنْذُ ثلاث ليال يَا أَبَا هريرة». قُلْتُ: لا. قَالَ: «ذَلِكَ شيطان».
عن أبي السائب أَنَّهُ دخل على أبي سعيد الخدري فِي بيته قَالَ: فوجدته يصلي فجلست أتنظره حَتَّى يقضي صلاته فسمعت تحريكًا فِي عراجين فِي ناحية البيت فالتفت فَإِذَا حية فوثَبِّتُ لأقتلها فأشار إليَّ أن أجلس فجلست فَلَمَّا انصرف أشار إلى بيت فِي الدار فَقَالَ: أتَرَى هَذَا البيت؟ فَقُلْتُ: نعم. فَقَالَ: كَانَ فيه فتى منَّا حديث عهد بعرس قَالَ: فخرجنا مَعَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى الخندق فكَانَ ذَلِكَ الفتى يستأذن رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم بأنصاف النَّهَارَ فيرجع إلى أهله.
فاستأذنه يَوْمًا فَقَالَ لَهُ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: «خذ عَلَيْكَ سلاحك؛ فإٍني أخشى عَلَيْكَ قريظة». فأخذ الرجل سلاحه ثُمَّ رجع فَإِذَا امرأته بين البابين قَائِمَة فأهوى إليها بالرمح ليطعَنْهَا به فأصابته، فقَالَتْ: اكفف عَلَيْكَ رمحك وادخل البيت حَتَّى تنظر مَا الَّذِي أخرجني فَإِذَا بحية عظيمة منطوية على الفراش فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به ثُمَّ خَرَجَ فركزه فِي الدار فاضطربت عَلَيْهِ فما يدري أيهما كَانَ أسرع موتًا الحية أم الفتى قَالَ: فجئنا إلى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذَلِكَ لَهُ وقلنا: ادع الله يحييه لَنَا فَقَالَ: «استغفروا لصاحبكم».
ثُمَّ قَالَ: «إن بالْمَدِينَة جنًا قَدْ أسلموا فَإِذَا رأيتم مِنْهُمْ شَيْئًا فآذنوه ثلاثة أيام فَإِن بدا لكم بعد ذَلِكَ فاقتلوه فإنما هُوَ شيطان». وفي رواية عَنْهُ فَقَالَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إن لهذه البيوت عوامر فَإِذَا رأيتم شَيْئًا مَنْهَا فحرجوا عَلَيْهَا ثلاثة فَإِنَّ ذهب وإِلا فاقتلوه فإنه كافر». وَقَالَ لَهُمْ: «اذهبوا فادفنوا صاحبكم».
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا نودي بالصَّلاة أدبر الشيطان وله ضراط حَتَّى لا يسمَعَ التأذين فَإِذَا قضي النداء أقبل حَتَّى إِذَا وثب بالصَّلاة أدبر حَتَّى إِذَا قضي التثويب أقبل حَتَّى يخطر بين المرء ونفسه يَقُولُ: اذكر كَذَا واذكر كَذَا- لما لم يذكر من قبل- حَتَّى يظلّ الرجل مَا يدري كم صلى». متفق عَلَيْهِ....
التثويب: الإقامة، يخطر: يوسوس.
وعن ابن مسعود رصي الله عَنْهُ قَالَ: ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم رجل نام حَتَّى أصبح قَالَ: «يعقَدْ الشيطان على قافية رأس أحدكم إِذَا هُوَ نام ثلاث عقَدْ يضرب على كُلّ عقدة عَلَيْكَ ليل طويل فارقَدْ، فَإِنَّ استيقظ فذكر الله تَعَالَى انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقده كُلّهَا فأصبح نشيطًا طيب النفس وإِلا أصبح خبيث النفس كسلان». متفق عَلَيْهِ.
اللَّهُمَّ أنظمنا فِي سلك حزبك المفلحين، واجْعَلنَا من عبادك المخلصين، وآمنا يوم الفزع الأكبر يوم الدين، واحشرنا مَعَ الَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
فَصْل:
وروى مُسْلِم عَنْ ابن مسعود قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لا تستنجوا بالروث، ولا بالعظام، فإنه زَادَ إخوانكم من الجن». وورد فِي السنة الصحيحة باللفظ الصريح: أكل الشيطان، وشربه فقَدْ ورد: «إِذَا أكل أحدكم فليأكل بيمينه وليشرب بيمينه فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله ويأخذ بشماله». وَهَذَا لا يحتاج إلى شرح، ولا تأويل لوضوحه.
وحديث الوادي الَّذِي نام فيه رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ زيد بن أسلم قَالَ: عرس رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم ليلة بطَرِيق مَكَّة، ووكل بلالاً يوقظهم للصلاة، فرقَدْ بلال ورقدوا، حَتَّى استيقظوا وَقَدْ طلعت عَلَيْهمْ الشمس، فاستيقظ القوم قَدْ فزعوا، فأمرهم رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم أن يركبوا، حَتَّى يخرجوا من ذَلِكَ الوادي. وَقَالَ: «هَذَا واد فيه الشيطان». فركبوا حَتَّى خرجوا من ذَلِكَ الوادي ثُمَّ أمرهم النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أن ينزلوا، وأن يتوضأوا وأمر بلالاً أن ينادي بالصلاة وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس ثم انصرف، وَقَدْ رأى من فزعهم، فَقَالَ: «أيها النَّاس إن الله قبض أرواحنا ولو شَاءَ لردها إلينا فِي حين غير هَذَا، فَإِذَا رقَدْ أحدكم عَنْ الصَّلاة أَوْ نسيها، ثُمَّ فزع إليها فليصلها كما كَانَ يصليها فِي وقتها».
ثُمَّ التفت رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى أَبِي بَكْرٍ الصديق فَقَالَ: «إن الشيطان أتى بلالاً وَهُوَ قائم يصلي فأجمعه، ثُمَّ لم يزل يهديه كما يهدى الصبي حَتَّى نام، ثُمَّ دعا رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم بلالاً فأخبر بلال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل الذي أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أشهد إِنَّكَ رَسُول اللهِ». رَوَاهُ مالك فِي الموطأ مرسلاً.
وعن ابن مسعود قَالَ: خَرَجَ رجل من الإنْس فلقيه رجل من الجن فَقَالَ: هل لَكَ أن تصارعني، فَإِنَّ صرعتني علمتك آية إِذَا قرأتها حين تدخل بيتك لم يدخله شيطان، فصارعه فصرعه، فَقَالَ: إني أراك ضئيلاً، كَأنَ ذراعيك ذراعا كلب، أهكَذَا أنتم أيها الجن، أم أَنْتَ من بينهم. قَالَ: إني فيهم لضليع فعاودني. فعاوده فصرعه الإنسي قَالَ: تقرأ آية الكرسي، فإنه لا يقرؤها أحد إِذَا دخل بيته إِلا خَرَجَ الشيطان وله خجيج كخجيج الحمار. فَقِيلَ لابن مسعود: أهو عُمَر؟ قَالَ: من عَسَى أن يكون إِلا عُمَر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
ومن ذَلِكَ مَا فِي مجيئ الشيطان فِي صورة شيخ نجدي فِي دار الندوة.
ومن قصتها أنه اجتمع قريش للتشاور فِي أمر رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ أَهْل العلم بالأخبار هاجر أصحاب النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم مثل عُمَر بن الخطاب، وابنه وأخيه زيد بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وحمزة بن عبد المطلب، عم رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم وزيد بن حارثة وغيرهم.
وأقام رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم بعد أصحابه ينتظر الإذن فِي الهجرة، ولم يتخلف معه بمَكَّة أحد من المهاجرين، إِلا من حبس، أَوْ فتن، إِلا أَبُو بَكْرٍ الصديق، وعلي بن أبي طالب وكَانَ أَبُو بَكْرٍ كثيرًا مَا يستأذن رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم فيَقُولُ لَهُ: لا تعجل لعل الله أن يجعل لَكَ صاحبًا، فيطمَعَ أَبُو بَكْرٍ أن يكون هُوَ.
ولما رأت قريش أن لرَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم شيعة، وأصحابًا من غير بلدهم، ورأوا خروج المهاجرين إليهم، حذروا خروج رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، وعلِموا أَنَّهُ قَدْ اجمَعَ لحربهم فاجتمعوا فِي دار الندوة، وهي دار قصي بن كلاب، وكَانَتْ قريش لا تقضي أمرًا إلا فيها يتشاورون فيما يصنعون برَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم حين خافوه.
قَالَ ابن عَبَّاس: لما خرجوا فِي الْيَوْم الَّذِي اتعدوا لَهُ، كَانَ ذَلِكَ الْيَوْم يسمى يوم الرحمة، فاعترض إبلَيْسَ فِي هيئة شيخ جليل، عَلَيْهِ بتلة أي كساء غليظ، فوقف على باب الدار، فَلَمَّا رأوه قَالُوا: من الشَّيْخ؟ قَالَ: شيخ من أَهْل نجد، سمَعَ بالَّذِي اتعدتم لَهُ، فَجَاءَ ليسمَعَ مَا تقولون، وعَسَى أن لا يعدكم منه رأيًا ونصحًا. قَالُوا: فأدخل.
وقَدْ اجتمَعَ أشراف قريش، فَقَالَ بَعْضهُمْ لبعض: إنْ هَذَا الرجل قَدْ كَانَ من أمره مَا قَدْ رأيتم، وإنَا وَاللهِ مَا نأمنه عَنْ الوثوب عَلَيْنَا، فأجمعوا فيه رأيًا، فَقَالَ قائل: احبسوه فِي الحديد وأغلقوا عَلَيْهِ بابًا، ثُمَّ تربصوا به مَا أصاب أمثاله من الشعراء من الموت. فَقَالَ الشَّيْخ النجدي: لا وَاللهِ مَا هَذَا لكم برأي، وَاللهِ لئن حبستموه كما تقولون ليخرجن أمره إلى أصحابه فيثبوا عليكم فينزعوه منكم، مَا هَذَا لكم برأي فانظروا فِي غيره.
فتشاوروا، ثُمَّ قَالَ قائل مِنْهُمْ: نخرجه عَنْ بلادنا، ثُمَّ إِذَا خَرَجَ فوَاللهِ لا نبالي أين ذهب. فَقَالَ الشَّيْخ النجدي: لا وَاللهِ مَا هَذَا لكم برأي ألم تروا حسن حديثه، وحلاوة منطقه، وغلبته على قُلُوب الرِّجَال بما يأتي به، وَاللهِ مَا هُوَ رأي.
فَقَالَ: أَبُو جهل: وَاللهِ لي رأيًا. قَالُوا: وَمَا هُوَ يَا أَبَا الحكم؟ قَالَ: أرى أن نأخذ من كُلّ قبيلة شابًا، ثُمَّ نعطي كُلّ فتى سيفًا، ثُمَّ يعمدوا إليه فيضربوه بها ضربة رجل واحد، فيقتلوه فتستريحوا منه فَإِنَّهُمْ إِذَا فعلوا ذَلِكَ تفرق دمه فِي القبائل جميعًا، فَلَمْ يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعًا، فرضوا بالعقل فعقلنا لَهُمْ.
فَقَالَ الشَّيْخ النجدي: هَذَا هُوَ الرأي الَّذِي لا أرى غيره. فتفرق القوم على ذَلِكَ، فأتى جبريل النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: لا تبيت اللَّيْلَة على فراشك، فَلَمَّا كَانَ عتمة من الليل، اجتمعوا على بابه يرقبونه حَتَّى ينام فيثبون عَلَيْهِ.
فَلَمَّا رأى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم مكانهم قَالَ لعلي بن أبي طالب: «نم على فراشي وتسج بردائي الأخضر، فإنه لن يخلص إليك شَيْء تكرهه مِنْهُمْ»، فَلَمَّا اجتمعوا على بابه قَالَ أَبُو جهل: إن محمدًا يزعم أنكم إن تابعتوه على أمره كنتم ملوك الْعَرَب، والعجم ثُمَّ بعثتم من بعد موتكم وجعلت لكم جنات كجنات الأردن، وإن لم تفعلوا كَانَ فيكم ذبح، ثُمَّ بعثتم من بعد موتكم، ثُمَّ جعلت لكم نار تحرقون فيها.
قَالَ: وخَرَجَ عَلَيْهمْ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم فأخذ حفنة من تراب ثُمَّ قَالَ: «نعم أَنَا أَقُول ذَلِكَ أَنْتَ أحدهم». فأخذهم الله على أبصارهم عَنْهُ فلا يرونه وجعل ينثر ذَلِكَ التُّرَاب على رؤوسهم، وَهُوَ يتلوا عَلَيْهمْ: {يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} إلى قوله: {فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ}، ولم يبق مِنْهُمْ رجلاً إِلا وَقَدْ وضع على رأسه ترابًا، ثم انصرف فأتاهم آتٍ فقال: ما تنتظرون ها هنا؟ قالوا: محمدًا. قال: خيبكم الله، والله خرج عليكم محمد ثم ما ترك منكم رجلاً إلا وقد وضع على رأسه تراباً وانطلق لحاجته.
قَالَ: فوضع كُلّ واحد مِنْهُمْ يده على رأسه فَإِذَا عَلَيْهِ تراب، ثُمَّ جعلوا يتطلعون فيرون عليًا على الفراش مُسجَّى ببرد رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، فيقولون: وَاللهِ إن هَذَا لمُحَمَّد نائم فِي برده، فَلَمْ يبرحوا كَذَلِكَ حَتَّى أصبحوا.
فقام علي عَنْ الفراش فَقَالُوا: وَاللهِ لَقَدْ صدقنا الَّذِي كان حدثنا وأنزل الله فِي ذَلِكَ: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} والشاهد هُوَ مجيء الشيطان ورؤيته وكلامه وَهُوَ أَبُو الجن لعنه الله.
ومن ذَلِكَ صياح إبلَيْسَ يوم أحد أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قتل، فَلَمْ يشك فِي ذَلِكَ، حَتَّى طلع رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم بين السعدين، قَالَ الراوي نعرفه بكتفيه إِذَا مشى قَالَ: ففرحنا حَتَّى كأنه لم يصبنا مَا أصابنا، فاؤمأ نحونا.. الحديث.
ومن ذَلِكَ مَا ورد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا استيقظ أحدكم من منامه فليتوضأ وليستنثر ثلاث مرات فَإِنَّ الشيطان يبيت على خياشيمه». متفق عَلَيْهِ.
ومن ذَلِكَ مَا ورد عَنْ أبي سعيد الخدري أن رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قام فصلى صلاة الصبح وَهُوَ خلفه فقرأ فالتبست عَلَيْهِ القراءة فَلَمَّا فرغ من صلاته قَالَ: «لو رأيتموني وإبلَيْسَ فأهويتُ بيدي فما زلت اخنقه حَتَّى وجدتُ برد لعابه بين إصبعي هاتين الإبهام والتي تليها ولولا دعوة أخي سُلَيْمَانٌ أصبح مربوطًا بسارية من سواري المسجد يتلاعب به صبيان الْمَدِينَة». وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

.فَصْل في تصور الجن في صور الإنس والبهائم:

وَقَالَ شيخ الإِسْلام والجن يتصورون فِي صور الإنس، والبهائم فيتصورون فِي صور الحيات، والعقارب، وغيرها، وفي صور الإبل، والبقر والغنم، والخيل، والبغال، والحمير، وفي صور الطير، وفي صور بَنِي آدم، كما أتى الشيطان قريشًا فِي صورة سراقة بن مالك بن قشم، لما أرادوا الْخُرُوج إلى بدر، قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ} إلى قوله: {وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.
وذكر ابن أبي الدُّنْيَا فِي كتابه مكائد الشيطان أن رجلاً من أَهْل الشام من أمراء معاوية غضب ذات ليلة على ابنه، فأَخْرَجَهُ من منزله فخَرَجَ الغلام لا يَدْرِي أَيْنَ يَذْهَبُ، فَجَلَسَ وَرَاء الْبَابِ مِنْ خَارِج، فَنَامَ سَاعَة ثُمَّ اسْتَيْقَظَ، وَبَابه يَخْمِشَهُ هِر أَسْوَدٌ بَرِّيٌ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ الْهِّرُ الَّذِي فِي مَنْزِلِهِمْ. فَقَالَ لَهُ البري: وَيْحَكَ افْتَحْ. فَقَالَ: لا أَسْتَطِيعُ. فَقَالَ: وَيْحَكَ ائْتِنِي بِشَيْء أَتَبَلَّغُ بِهِ، فَإِنِّي جَائِعٌ وَأنَا تَعْبَانٌ، هَذَا أَوَان مَجِيء مِنَ الْكُوفَةِ وَقَدْ حَدَثَ اللَّيْلَة حَدَثٌ عَظِيم قُتِلَ عَلَيٌ بِن أَبِي طَالِبٌ. قَالَ: فَقَالَ لَهُ الْهِّرُ الأَهْلِيُ: وَاللهِ أَنَّهُ لَيْسَ شَيْء هَا هُنَا، إِلا وَقَدْ ذَكَرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ، غَيْر سفود كَانُوا يَشْوُونَ عَلَيْهِ اللَّحْمَ. فَقَالَ: ائْتِنِي بِهِ فَجَاءَهُ فَجَعَلَ يَلْحَسَهُ حَتَّى أَخَذَ حَاجَتَهُ وَانْصَرَفَ وَذَلِكَ بِمَرْأَى مِنَ الْغُلامِ وَسَمِعٍ، فَقَامَ إِلَى الْبَابِ فَطَرَقَهُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ أَبُوهُ، فَقَالَ: مَنْ؟ فَقَالَ: افْتَحْ. فَقَالَ: وَيْحَكَ مَا لَكَ؟ فَقَالَ: افْتَحْ. فَفَتَحَ فَقَصَ عَلَيْهِ خَبَرَ مَا رَأَى. فَقَالَ: وَيْحَكَ أَمَنَامٌ هَذَا؟ قَالَ: لا وَاللهِ. قَالَ: وَيْحَكَ، فَأَصَابَكَ جُنُونٌ بِعْدِي؟ قَالَ: لا وَاللهِ، وَلَكِنْ الأَمْر كَمَا وَصَفْتُ لَكَ.
فَاذْهَبْ إِلَى مُعَاوِيَة الآن فاتخذ عِنْدَهُ بِمَا قُلْتُ لَكَ. فَذَهَبَ الرَّجُلُ فَاسْتَأْذَنَ عَلَى مُعَاوِيَة فَأَخْبَرَهُ خَبَرَ مَا ذَكَرَ لَهُ وَلَدُهُ، فَأَرَّخُوا ذَلِكَ عِنْدَهُمْ قَبْلَ مَجِيءِ الْبردِ، وَلَمَّا جَاءَتْ الْبردُ وَجَدُوا مَا أَخْبَرهمْ قَبْلَ مَجِيءِ الْبردِ، ولما جاءت البرد وجدوا مَا أخبروهم بِهِ مُطَابِقًا لِمَا كَانَ خَبَّرَ بِهِ الْغُلامُ.
وَرُوِيَ أَنَّ سَعَدَ بْن عُبَادَة بَالَ بِجحر بِالشَّامِ ثُمَّ اسْتَلْقَى مَيِّتًا فَسُمِعَ مَنْ بِئْرٍ بِالْمَدِينَةِ قَائِلاً يَقُولُ: نَحْنُ قَتَلْنَا سَيِّدَ الْخَزْرَجَ سَعْد بْن عُبَادَة، رَمَيْنَاهُ بِسَهْمَيْنِ فَلَمْ نُخْطِي فُؤَادَهُ، فَحَفِظُوا ذَلِكَ الْيَوْم الَّذِي مَاتَ فِيهِ سَعْدُ فَوَجَدُوهُ الْيَوْم الَّذِي سُمِعَ فِيهِ الْخَبَرَ. وَاللهُ اعْلَمْ.
اللَّهُمَّ وَفَّقَنَا لتدبر كتابك وإطالة التأمل فيه وجمَعَ الفكر على معاني آياته.
اللَّهُمَّ ثَبِّتْ قواعد الإِيمَان فِي قلوبنا وشيد فيها بنيانه ووطد فيها أركانهوألهمنا ذكرك وشكرك وآتنا فِي الدُّنْيَا حسنة وفي الآخِرَة حسنة، اللَّهُمَّ يَا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغَفْلَة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة وَوَفِّقْنَا لمصالحنا واعصمنا من قبائحنا وذنوبنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عَلَيْهِ ضمائرنا وأكنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب التي تعلمها منا وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتيين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.